الجمعة، 2 مارس 2012

من رواية "كوكب عنبر" لمحمد ربيع*


لستُ مهتماً بمصير المكتبة، لن أقلق على مجموعة من الأحجار والأخشاب، فهي مرصوصة فوق بعضها في شكل جميل أو قبيح، قتلتُ الحنين منذ سنوات ولم أزر القبر. ما يعنيني هو المحتويات، آلاف الكتب، تم بذل مجهود ضخم حتى تكتب، ومجهود آخر خيالي حتى تترجم بهذه الدقة، ولو حسبتُ الزمن الذي مضى في كتابتها وترجمتها لزاد عن عمر العالم، كل هذا مصيره إلى المخازن وأمعاء الفئران.

امتلأت المكتبة حتى لم يبق هناك مكان خال على رف، كان لابد من توسيع المكان، وهو غير قابل لذلك، أو تنقل الكتب إلى مكتبة أخرى. هل هذا هو المعتاد؟ لم أسمع من قبل عن مكتبة امتلأت عن آخرها، يعيش المكان عشرات الأعوام، تزيد محتوياته فيبدأون في توسيعه وزيادة عدد غرفه، تدريجياً يضيق المكان مرة أخرى حتى يأتي الفاتحون المسلمون فيحرقون المكان بما فيه.

منظر شاعري جداً، نار موقده ترتفع وتضيء ليل المدينة. أو يأتي المغول ليلقوا بمحتويات المكتبة في نهر دجلة، وهو منظر أكثر شاعرية، يتحول لون ماء النهر إلى السواد، بعد أن اختلط حبر الكتب بماء النهر، ويزيد بعضهم من شاعرية المشهد فيدعي أن المغول أشعلوا الكتب، لترتفع النار فوق النهر، عظيم جداً! التاريخ يكتبه المنتصر، ولو كتبه المهزوم لحول هزيمته لوَلوَلة وبكى على ما فات واندثر، شاغلاً الناس عن سبب الهزيمة وتقاعسه وخيب مسعاه. شكراً لمؤرخينا على هذه المشاهد الخيالية الجديرة بفيلم عالمي مدهش. هذا التاريخ الكامل دليل على أن كل المكتبات في النهاية مصيرها النار أو الغرق، مازلت أحاول تذكر اسم مكتبة عاشت إلى الأبد، لا يوجد. كوكب عنبر لن تكون استثناءاً للقاعدة. نهاية المكتبة تحين عندما تمتلئ، وكوكب عنبر امتلأت، أشعلوا النيران!

* إصدار 2010

من رواية "محال" ليوسف زيدان*


روحه ترتاح عند حواف البحيرة، فيأتي إليها دوماً بعد صلاة الفجر ويرمي بوصة الصيد في الماء، ثم يسكن حتى تطمئن سمكة وتنخدع بالطُعم، فتعلق في الطرف المغمور وتصير طعاماً... حتى لو خلت البحيرة من الأسماك، وكفت عن المنح، فسوف يظل يأتي للجلوس على ضفافها. وسيظل يكتب فيها الأشعار التي لم يخبر بها أحداً، قط، ولن يقرأها إلا لهذه البحيرة الحنون، التي يؤلف الشعر من أجلها. الظِل يدل. لا يحتاج النظر في ساعة يده ليدرك أن عقاربها تلامس السادسة، ولن يقلق على وصول الباص ليأخذه في تمام السابعة والنصف، لأن المواعيد مرعية عند العاملين بالسياحة وغير قابلة للقلق.

هام بعينيه من جديد على وجه الماء، فغمره الشعور الزور بأن البعيد قريب. البحيرة تحرِض الحالمين وتحن على الوحيد المغترب حين تستخف بالمسافات، وتستهين بتلك الحدود المرسومة لفصل المتصل بين مصر والسودان. الحدود. فوق الأوراق يرسمها الساسة بحسب المصالح والأهواء، ثم يزرعون عندها السياج وينثرون حولها المسلحين فتُمسي حائلاً لا يحول ولا يزول، إلا بالإذن أو بالسلاح. الصغار يرونها في الرسوم فيصدقون بها، وقد يقتتلون من أجلها حين يكبرون، لأن الوهم يُمسي بعد حين حقيقا.. فيصير التيه للناس طريقا.

العام الماضي كتب للبحيرة قصيدة يسألها فيها عن اسمها، وعما رأته طيلة السنوات الثلاثين الماضية، فلم تجاوبه. الناس هنا يسمونها البحيرة من دون إضافة، أو يفصلون للأغراب فيقولون "بحيرة السد" وأما الكتب المدرسية فهي تحتال على الصبيان وتسميها بحيرة ناصر. كانوا يشتهون في مصر النصر بعد ما افتقدوه طويلاً في الحروب، فوضعوه عنوةً في التسميات استجلاباً له وتيمنًا باسم رئيسهم ناصر.. "الناصر ربنا، وهو المستعان" يزعق الحاج بلال بذلك كلما سمع اسم عبد الناصر، مع أن صوته في العموم خفيض، لكنه لا يحب الرئيس الذي حرمه من بيته النوبي المشرفة نوافذه على النيل، من فوق ربوة صارت اليوم قاعاً للبحيرة. الحاج بلال المؤذن رجل وديع القلب، طيب، لكنه كأهل النوبة كلهم يأسى لسابق الأيام ولم يستسلم بعد للنسيان. وهو كبقية كبارهم سناً يؤكد أن جبلاً من الذهب كان يلمع عند الفجر بناحية الشرق، حتى طمَ الماء بعد السد فانطمر الذهب مع الدفائن، وانطمر الزمان النوبي. ويوقن الحاج بلال أن بجوف النيل سكاناً يعيشون حياتهم تحت الماء، كان أهل النوبة قديمًا يعدون الطعام في المناسبات، ويرسلونه لهم على صفحة النيل.       

* إصدار 2012