السبت، 7 أبريل 2012

وسألت نفسي - من كتاب السؤال الحائر لمصطفى محمود



سألت نفسي عن أسعد لحظة عشتها؟

ومر بخاطري شريط طويل من المشاهد... لحظة رأيت أول قصة تنشر لي، ولحظة تخرجت من كلية الطب، ولحظة حصلت على جائزة الدولة في الأدب... ونشوة الحب الأول والسفر الأول... والخروج إلى العالم الكبير متجولا بين ربوع غابات إفريقيا العذراء، وطائراً إلى ألمانيا وإيطاليا والنمسا وسويسرا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا... ولحظة قبضت أول ألف جنيه... ولحظة وضعت أول لبنة في المركز الإسلامي بالدقي... استعرضت كل هذه المشاهد وقلت في سري... لا ... ليست هذه...

بل هي لحظة أخرى ذات مساء من عشرين عاما اختلط فيها الفرح بالدمع بالشكر بالبهجة بالحبور حينما سجدت لله فشعرت أن كل شيء في بدني يسجد... قلبي يسجد... عظامي تسجد... أحشائي تسجد... عقلي يسجد... ضميري يسجد... روحي تسجد...

حينما سكت داخلي القلق وكف الاحتجاج ورأيت حكمة الله في العذاب فارتضيته، ورأيت كل فعل الله خير، وكل تصريفه عدل، وكل قضائه رحمة، وكل بلائه حب... لحظتها أحسست وأنا أسجد أني أعود إلى وطني الحقيقي الذي جئت منه وأدركت هويتي وانتسابي وعرفت من أنا... وأنه لا أنا... بل هو ولا غيره...

انتهى الكبر وتبخر العناد وسكن التمرد وانجابت غشاوات الظلمة وكأنما كنت أختنق تحت الماء ثم أخرجت رأسي فجأة من اللجة لأرى النور وأشاهد الدنيا وآخذ شهيقا عميقا وأتنفس بحرية وانطلاق... وأي حرية... وأي انطلاق... يا إلهي... لكأنما كنت مبعدا منفيا مطرودا أو سجينا مكبلا معتقلا في الأصفاد ثم فك سجني... وكأنما كنت أدور كالدابة على عينيها حجاب ثم رفع الحجاب.

نعم... لحظتها فقط تحررت.

نعم... تلك كانت الحرية الحقة... حينما بلغت غاية العبودية لله وفككت عن يدي القيود التي تقيدني بالدنيا وآلهتها المزيفة... المال والمجد والشهرة والجاه والسلطة واللذة والغلبة والقوة...

وشعرت أني لم أعد محتاجا لأحد ولا لشيء لأني أصبحت في كنف ملك الملوك الذي يملك كل شيء.

كنت كفرخ الطير الذي عاد إلى حضن أمه...

كانت لحظة ولكن بطول الأبد... نعم تأبدت في الشعور وفي الوجدان وألقت بظلها على ما بقى من عمر ولكنها لم تتكرر... فما أكثر ما سجدت بعد ذلك دون أن أبلغ هذا التجرد والخلوص وما أكثر ما حاولت دون جدوى... فما تأتي تلك اللحظات بجهد العبد بل بفضل الرب... وإنما هو الذي يتقرب إلينا وهو الذي يتحبب إلينا... وما نتعرف إليه إلا به... وما نعبده لحظة تمام العبادة إلا بمعونته... وما ندخل عليه إلا بإذنه... فهو العزيز المنيع الجناب الذي لا يدخل عليه بالدعاوي والأقاويل.

ولقد عرفت آنذاك أن تلك هي السعادة الحقة وتلك هي جنة الأرض التي لا يساويها أي كسب مادي أو معنوي.

يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ﴿واسجد واقترب﴾ (19- العلق).

صدق الله العظيم... وما كل ساجد بمقترب إلا إذا خلع النعلين فألقى بالدنيا وراءه ثم ألقى بنفسه خلفها ودخل مسلم القلب عريان المشاعر خاشع الفؤاد ساجد الأعضاء... حينئذ يكون القرب... وتكون السجدة.

ولكم أتمنى أن أعاود تلك السجدة.

أو تعاودني تلك السجدة... ويتفضل علي الله بالقرب ويأذن لي بالعبادة حق العبادة... وأقول في نفسي أحيانا... لعلي لم أعد أخلع النعلين كما يجب وكما يليق بجلال المقام الأسمى... ولعل الدنيا عادت فأخذتني في دوامتها وعاد الحجاب فانسدل على العينين وعادت البشرية فناءت بثقلها وكثافتها على النفس الكليلة ولكني لا أكف عن الأمل وأسأل الله أن يشفع الأمل بالعمل سبحانه وسعت رحمته كل شيء.
     

ليست هناك تعليقات: